كتاب السيرة الذاتية ” واستقرت بها النوى ” لـ د. حمزة المزيني
يقدم الدكتور المزيني لسيرته الذاتية بمجموعة من الأقوال منها إنه لا تكشف السيرة الذاتية شيئاً سيئاً عن كاتبها سوى ذاكرته. ولكن هذه السيرة المشوقة تعكس ذاكرة خصبة أمدت صاحبها بكم من التفاصيل ربما أكثر مما يحتاجه القارئ العادي لاستكمال المتعة والفائدة.
تطالعك صورة صاحب السيرة علي الغلاف مفعمة بالرضا عن مسيرته الحياتية رغم كل النقع الذي أثاره في الميادين الثقافية التي نازل فيها بغير هوادة. ورغم أن بعضها ساقه إلى المحاكم إلا أن هذا لم يغير من توجهاته شيئاً باطمئنانه إلى نهجه النهج العلمي.
ولد صاحبنا في بادية المدينة حيث وادي العقيق، وذاق اليتم وهو في السابعة من عمره بفقدان والده، وربته أمه التي أصبحت أم الأيتام فقد تكفلت بتربية أبنائها وأبناء ضرتيها فأحسنت وأجادت. تطالعنا السيرة بالكثير مما ساد من شظف العيش آنذاك، ها هي والدته تقطف النعناع الحساوي المشهور بمذاقه الفريد وتبيعه في المدينة. ويذكر أنه لم ينتعل حذاء إلا بعد أن وصل إلى السنة الإبتدائية الرابعة، وقبلها كان الحفاء هو السائد، بل أن حذائين له قد سُرقا لما لوحظ عليهما من جودة. ولكن ذلك لم يمنع وجود قدر من الترفيه مثل جلسات الدهليس (الدهليز)، والدهليسد(الدهليز) هو قريب مما يعرف بالديوانية، حيث يتناشدون الأشعار ويتناقلون القصص والأخبار، ورغم الفقر فهناك الكثير من مظاهر التكافل، منها ما ذكره من أن رجلاً هندياً جاء إلى مسجد ذي الحليفة حيث يحفظ الصبية القرآن وجهز لهم طعاماً طيباً وفيرا، ثم علمهم كيف يدهنون جلودهم التي أرهقها الشقاق بالفازلين، ومن ذلك ما ذكره من أنه أعجب بمشلح لم يكن معه ثمنه فمنحه له البائع وترك له الوفاء بثمنه متى وجد. ومن ذكرياته المؤلمة وفاة أخيه الأكبر غريقاً عند نزوله يستسقي من بئر الماء وكان أخوه مصاباً بالصرع. وعندما أولع بالقراءة حذر جار لهم والدته من انغماس حمزة في القراءة، وكان يقول لها أنه يخشى أن ابنها سيقع في قراءة كتاب الورد! . وهذا الكتاب يعلم من يقرأه كيف يستخدم الجن، وهم الذين سيقتلونه إن لم يجد كيفية للتعامل معهم. ويروي أحاديث جذابة عن الثقافة الشعبية في ديرته، فقد كانوا يتأملون في السماء مجر الكبش (درب التبانة)ويعتقدون أنه الغبار الذي أثاره كبش إبراهيم الخليل عليه السلام بينما كان منقاداً حتى يتم به فداء إسماعيل. وبينما كانت والدته تربي الدجاج وتبيع إنتاجها، ولم تطبخ لهم منها دجاجة أو بيضة قط، والسبب ثقافي فقد كان المعهود أن من العيب على من ينتمي إلى قبيلة أن يحمل الدجاج أو البيض أو يأكلهما، وشبيه بهذا موقفهم من أكل لحم البقر الذي تسبب طهيه في تسريح طباخهم اليمني أيام الدراسة بالرياض. كما ورصد الكاتب شيئا من الإختلافات في طريقة التدين بين بدو المدينة وبدو نجد. ونقل بعضاً من المماحكات اللطيفة التي تجري بين بدو المدينة وحضرها، منها تبادل الاحتجاج بآيات القرآن الكريم بينه وبين أستاذه محمد العيد الخطراوي في المدينة عن أهل المدينة وأعرابها. أما عن التداوي بالكي والأعشاب، وجبر الكسور عند بعض الخبراء المحليين فهناك أحاديث، منها أنه وهو في سني الدراسة الجامعية بالرياض عاني هزالاً وضعفاً لم يعرف سببه الأطباء وشخص الأطباء الشعبيون مرضه بأنه الظلال، وعالجوه بالكي، ولم يُشف إلا بعد أن نٌصح بشرب الحليب أثناء وجوده في لندن فعوفي.
ومن البادية انتقل إلى المدينة المنورة ليدرس في مدرستها الصناعية ثم ليتحول منها إلى المدارس العادية، طريقه لم يكن سهلاً فقد كان عليه أن ينتظر على الطريق أياً من سائقي الشاحنات التي تنقل الرمل من وادي العقيق للمدينة، وكم تعرض للإحراج. في الرياض التحق بكلية الآداب. في السنة الثالثة بالكلية تعلم علي يد الدكتور منصور الحازمي، وشعر أن حياته قد انقسمت إلى شطرين الأول قبل لقاءه بالحازمي والثاني بعده وذلك عائد إلى طريقة تدريسه، إذ خرج بها من النظر للنصوص الأدبية علي أنها مادة ميته تُدرس لأغراض نحوية ولغوية وبلاغية جامدة إلى النظر إليها على أنها تمثل حيوات أشخاص ممكن أن يعيشوا وينتجوا وينتجوا تلك النصوص في أي زمان وأي مكان. ولقد تمنيت لو أن صاحبنا لم يذكر أساتذته الآخرين في معرض النقد لأساليبهم التدريسية، ولقد كان يكفي أن يذكر الأسلوب التدريسي وما يأخذه عليه، خاصة وأنه أثنى عليهم في مواقع أخرى وزاملهم في التدريس فيما بعد. وعندما تخرج أصبح معيداً، واشترى سيارة سار بها في شوارع الرياض دونما أي تدريب مسبق على القيادة مما وضعه وسيارته في مواقف محرجة. خلال سنته في الإعادة قضي وقتاً ميدانياً في دراسة لهجات القبائل العربية في الجنوب. وقد لفت نظره طريقة التعامل مع النساء وحضورهن في مجالس أزواجهن وغير ذلك مما لم يكن مألوفاً في مناطق المملكة الأخرى. ومن المناطق التي مر في رحلته عليها منطقة بارق التي ذكرته بالشاعر عمرو بن سفيان البارقي صاحب بيت الشعر المشهور
فألقت عصاها واستقرت بها النوي
كما قر عينا بالإياب المسافر
وها نحن نرى أن صدر هذا البيت الجميل قد أصبح عنواناً لهذه السيرة.
أبتُعث حمزة إلى إنجلترا حيث قضي عامين ونصف، جمع فبها مادة البحث إلا أنه عجز عن إخراجها في رسالة للماجستير، نظراً لأن كلية الدراسات العربية والأفريقية لم تكن تعني بتدريب طلابها على أصول البحث والكتابة، وكان مشرفه سلبيًا، إذ اقتصرت لقاءاتهما على مناقشة موضوعات عامة، وإن كان ساعده في مكاتبة جامعة الملك سعود لترتيب رحلته لدراسة لهجات حرب في المدينة، ثم كاتب الجامعة لأجل إيفاده إلى أمريكا للدراسة عاماً ضمن خطة الماجستير.
وفي أوستن بأمريكا تمكن من الحصول على الماجستير والدكتوراه بيسر أهله له جده واجتهاده. في أمريكا يُنظر إلى طالب الدراسات العليا على أنه لا يعرف شيئاً عن تخصصه، ويأخذون بيده بالتدريج، أما الدراسة في بريطانيا فيفترض أن الطالب يعرف كل شيئ وأنه بالتالي ليس بحاجة إلى أحد. إضافة إلى الدراسة كان حريصاً على متابعة الدوريات الثقافية والسياسية المهمة وكذلك نشرات الأخبار، والبرامج التليفزيونيه المهمة مثل برنامج (واجه الصحافة) و(برنامج كل العائلة)، وحرص على أن يتابع عالم اللسانيات الأمريكي تشومسكي والذي إشتهر بمناوءته للصهيونية. وعندما يتذكر هذه الانشغالات الثقافية يتذكر نصيحة أستاذه عزت النص عميد كلية الآداب ورئيس وزراء سوري سابق، قال له ولزملائه المعيدين أن استفادة المبتعث من التعرض للثقافة العامة في الغرب ربما تساوي استفادته من دراسته الأكاديمية إن لم تتفوق عليها.
عاد ليعمل في كلية الآداب، وهو يشعر بأنه محظوظ بعمله في التدريس الجامعي لأنه يمنح قدراً من التحرر من بيروقراطية العمل، وظل في موقعه حتي التقاعد، عاد بعد التقاعد غير متفرغ وكان من الممكن أن يستمر في العمل فترة أطول. لكن تسببت معارضته لإغفال قسم اللغات ترشيح بعض الكفآءات العربية العاملة في القسم لجائزة الملك فيصل في إنهاء عقده.ومن الطريف أن الاسمين اللذين رشحهما قد فازا بالجائزة فيما بعد حيث تمت التوصية بهما من مراكز علمية أخرى.
أنجز الدكتور حمزة مجموعة من الترجمات والكتب المهمة في تخصصه وخاصة ما كتبه نعوم تشومسكي، كما أصدر كتباً تهم الرأي العام منها كتبه عن الأهلة وكذلك كتابه حوار مع الضفة المقابلة، وكتاب العولمة والإرهاب: حرب أمريكا على العالم.
اشتهر عن الدكتور تصديه لقضايا اشكلت علي الرأي العام، منها قضية الأهلة حيث يتم تحديد مواعيد السنة الهجرية المهمة بالرؤية البصرية المباشرة، ويري الدكتور أن نسبة الخطأ فيها عالية، كما يرى أن الاعتماد على الحساب الفلكي ضروة سواء أكان ذلك اعتماداً كلياً بدل الرؤية البصرية، أو اعتماداً جزئياً باعتماد حسابات فلكية تقلل من نسبة خطأ الرؤية البصرية.، وقد تعرض إلى كثير من الاعتراضات بسبب ذلك، ومنها أن وزارة العدل قد رفعت للنائب العام بدعوى أن تغريداته تسيئ إلى المحكمة العليا التي تكلف بمتابعة ترائي الهلال. كما وتصدي لما رآه من ممارسات تعكس تطرفا دينيا،و رفعت عليه قضية أخري تتهمه بالسخرية من اللحية، وكاد يحكم عليه لولا صدور قرار وزاري بإحالة قضايا النشر إلي وزارة الإعلام.. وهناك تفصيل عن قضايا مهمة أخري تصدي لها الدكتور حمزة مثل قضايا الشهادات الوهمية وخاصة من جامعتي كولومبس في أمريكا وجامعة لندن العالمية، وفي عرضه لها تفاصيل محزنة عن الإتجار بالشهادات وإن لم تخل من غرابة وطرافة معاً. ومثله يقال عن نقد الدكتور لطريقة تعامل جامعات المملكة مع هيئات تصنيف الجامعات حسب المستوي الأكاديمي العالمي. وأظن أن من لا يقتنع برأي الدكتور حمزة في هذه المجالات رغم وجاهته لا يستطيع إلا أن يشهد له بالشجاعة والإستقلالية.
يري الكاتب أن سيرته الذاتية ربما تكون مثالا لسيرة أبناء جيله، وهو الجيل الذي مثل بداية تلاشي مظاهر الحياة التقليدية التي استمرت قرونا وبداية نمط جديد من الحياة. ولا شك أن هذه السيرة – على طولها وازدحامها بالتفاصيل- حافلة بالتشويق والمتعة والفائدة.