لبيد بن ربيعة العامري يجيب بشعره عن أحداث وباء كورونا
في الجلوس إلى كبار السن والتحاور معهم محاولةُ استخلاص رحيق التجارب الإنسانية، خاصةً في مثل هذه الأيام المترَعةِ بالتخرصات، المشبَعةِ بالمخاوف.. لبيد بن ربيعة من شعراء المعلقات، أدرك الإسلام وتوفّي في خلافة عثمان رضي الله عنه، فهو من المعمّرين، خبير بتغيّرات الزمان، وتقلبات الأحداث، وبصيرٌ بطبائع النفوس، ومخبوء المخاوف.
تخيلتُ أني استشرت لبيدًا فيما يجري من أحداث هذا الوباء، وفي رؤيته للناس ومخاوفهم، ورؤيته للشعر الذي هجره طائعًا وقد اعتلى ذروته، فكان الحوار التالي:
– ابتداءً، ما رأيك فيما تسمع من أخبار ومن توقعات الخبراء؟
لعمرك ما تدري الضواربُ بالحصى
ولا زاجرات الطير ما الله صانعُ
سلوهنّ -إن كذّبتموني- متى الفتى
يذوق المنايا..أو متى الغيث واقعُ
– هل هذا يعني أن الأمر لديك سيّان؟
فلا أنا يأتِيني طريفٌ بفرحةٍ … ولا أنا ممّا أحدث الدهرُ جازعُ
–يظن معاصرون أنهم عايشوا كوارث غير مسبوقة، وأقلها رعب تعقيم الأنامل، فهل نحن وحدنا؟
وَكُلُّ أُناسٍ سَوفَ تَدخُلُ بَينَهُم
دُوَيهِيَةٌ تَصفَرُّ مِنها الأَنامِلُ
– لكن الطب تقدّم، والدول العظمى تحاول اكتشاف الدواء، ألا تُطَمْئن هذه المحاولات؟
أَلا تَسأَلانِ المَرءَ ماذا يُحاوِلُ
أَنَحبٌ فَيُقضى أَم ضَلالٌ وَباطِلُ
فَتَعلَمَ أَن لا أَنتَ مُدرِكُ ما مَضى
وَلا أَنتَ مِمّا تَحذَرُ النَفسُ وائِلُ
فَإِن أَنتَ لَم تَصدُقكَ نَفسُكَ فَاِنتَسِب!
لَعَلَّكَ تَهديكَ القُرونُ الأَوائِلُ
أَرى الناسَ لا يَدرونَ ما قَدرُ أَمرِهِم..
بَلى كُلُّ ذي لُبٍّ إِلى اللَهِ واسِلُ
– نعرف أن الموت حقيقة، لكن على هذه الحياة الآن كثير من الزيف والشائعات والتخرصات، أين نجد الحقيقة؟
أَلا كُلُّ شَيءٍ ما خَلا اللَهَ باطِلُ
وَكُلُّ نَعيمٍ لا مَحالَةَ زائِلُ
وَكُلُّ اِمرِئٍ يَوماً سَيَعلَمُ سَعيَهُ
إِذا كُشِّفَت عِندَ الإِلَهِ المَحاصِلُ
-ما أعظم أن يقال لشاعر صدقت! أخبرنا من أين المدد؟ أنت تعدد عشرات الأسماء للراحلين من الأصدقاء وأعيان القبائل فكيف يهون عليك؟
فَهَوَّنَ ما أَلقى وَإِن كُنتُ مُثْبِتاً
يَقيني بِأَن لا حَيَّ يَنجو مِنَ العَطَبِ
– أحيانًا نسلو ، فتعود أعراض انسحابية كل مرة بفعل الذكرى، ما التجارب التي لا تجدي معها الملهيات، بل قد تحمل ضريبة تبعية؟طَرِبَ الفُؤادُ وَلَيتَهُ لَم يَطرَبِ
وَعَناهُ ذِكرى خُلَّةٍ لَم تَصقَبِ
إِنَّ الرَزِيَّةَ لا رَزِيَّةَ مِثلُها
فِقدانُ كُلِّ أَخٍ كَضَوءِ الكَوكَبِ
ذَهَبَ الَّذينَ يُعاشُ في أَكنافِهِم
وَبَقيتُ في خَلفٍ كَجِلدِ الأَجرَبِ
– من شواغل هذه الأيام العلاقات الأسرية وكدر البقاء مع الأهل في المنزل، لماذا تبدو علاقة الشاعر متوترة مع امرأته- رغم تلميع بعض الدراسات النقدية- ؟
فَدَعِي الملامةَ وَيْبَ غيرِكِ إنَّهُ
ليسَ النّوالُ بِلَوْمِ كلِّ كريمِ
ولقَد بَلَوْتُكِ وابْتَلَيْتِ خَلِيقَتي
ولقَد كفَاكِ مُعَلِّمي تَعْليمي
وَعَظيمةٍ دافَعْتُهَا فَتَحوَّلَتْ
عنِّي فَلَمْ أدْنَس وَصَحَّ أديمي
– وماذا عن البقاء مع الأبناء والبنات؟
تمَنّى اِبنَتايَ أَن يَعيشَ أَبوهُما
وَهَل أَنا إِلّا مِن رَبيعَةَ أَو مُضَر
-والأصدقاء؟ ما أعظم ما يُفتقَد من الصديق الذي حجبته أيام العزلة؟
تَراهُ رَخيَّ البالِ إِن تَلقَ تَلقَهُ
كَريماً وَما يَذهَب بِهِ الدَهرُ يَذهَبِ
يُثَنّي ثَناءً مِن كَريمٍ وَقَولُهُ
أَلا اِنعَم عَلى حُسنِ التَحِيَّةِ وَاِشرَبِ
-لعل قولك هذا مثل قول العامة(رحّب بي ولا تعشّيني، أو لاقيني ولا تغدّيني)، الناصحون يدعون إلى استغلال الأوقات، وتغيير الذات -لا تطويرها وحسب-، فمَن الثقةُ الذي تنصح بالاستماع إليه؟
ما عاتَبَ الحُرَّ الكَريمَ كَنَفسِهِ
وَالمَرءُ يُصلِحُهُ الجَليسُ الصالِحُ
– وقد عمّرت طويلًا، أمَا غيّرت تجاربُ العمر طباعَك؟ أمَا مللت؟
كانت قناتي لا تلين لغامز
فألانها الإصباحُ والإمساءُ
ودعوتُ ربي في السلامة جاهدًا
ليصحّني .. فإذا السلامة داء
– متى يشعر الإنسان بمثل هذا الضيق؟ أن «تضيق به الوسيعة»؟
كَأَنَّ بِلادَ اللَهِ وَهيَ عَريضَةٌ
عَلى الخائِفِ المَطلوبِ كِفَّةُ حابِلِ
– ما يصنع الزمانُ بالإنسان؟ ما المهارة العامة التي يتفنّن في تطبيقها على البشر؟
لحا اللَهُ هَذا الدَهرَ إِنّي رَأَيتُهُ
بَصيراً بِما ساءَ اِبنَ آدَمَ مولَعا
-النفس الإنسانية، هذا المجهول المعروف، ما تعريفك للنفس؟
هَلِ النَفسُ إِلّا مُتعَةٌ مُستَعارَةٌ
تُعارُ فَتَأتي رَبَّها فَرطَ أَشهُرِ
– اللهم نعم، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وأستزيدك عن رأي عقلاني يواسي النفوس القلقة المتعبة هذه الأيام، وخشية الكثيرين من اضطرابات نفسية حقيقية لاحقًا؟
يا أَسمَ صَبراً عَلى ما كانَ مِن حَدَثٍ
إِنَّ الحَوادِثَ: مَلقِيٌّ ، وَمُنتَظَرُ
صَبراً عَلى حَدَثانِ الدَهرِ وَاِنقَبِضي
عَنِ الدَناءَةِ إِنَّ الحُرَّ يَصطَبِرُ
وَلا تَبيتَنَّ ذا هَمٍّ تُكابِدُهُ
كَأَنَّما النارُ في الأَحشاءِ تَستَعِرُ
فَما رُزِقتَ.. فَإِنَّ اللَهَ جالِبُهُ
وَما حُرِمتَ.. فَما يَجري بِهِ القَدَرُ
– ما أحسن مضاد اكتئاب من تجربتك؟
كُنتُ إِذا الهُمومُ تَحَضَّرَتني
وَضَنَّت خُلَّةٌ بَعدَ الوِصالِ
صَرَمتُ حِبالَها وَصَدَدتُ عَنها
بِناجِيَةٍ تَجِلُّ عَنِ الكَلالِ
عُذافِرَةٌ تَقَمَّصُ بِالرُدافى
تَخَوَّنَها نُزولي وَاِرتِحالي
– عندنا حظر تجول ليلًا، فنصيحتك بالسير في السيارة ليلًا قد يسبب اكتئاب العشرة آلاف:)، ماذا عن الشواء والتنويع في الأطعمة، والنوادر عن زيادة الوزن غير الصحّي مع الحجر الصحّي؟
إِنّا قَد يُرى ما نَحنُ فيهِ
وَنُسحَرُ بِالشَرابِ وَبِالطَعامِ
كَما سُحِرَت بِهِ إِرَمٌ وَعادٌ
فَأَضحَوا مِثلَ أَحلامِ النِيامِ
– إذن فالقراءة هي الحل، هناك رواية معاصرة عنوانها»هيّا نشترِ شاعرًا» تعزّز قيمة الشعر في هذه الحياة الرقمية الرأسمالية، هل كلّ شعر يُشترى يا شاعر المعلقة المذهبة؟ ألا يمكن أن نقول هذه الأيام «هيّا نبِعْ شاعرًا»؟
الكَلبُ وَالشاعِرُ في مَنزِلٍ
فَلَيتَ أَنّي لَم أَكُن شاعِرا
هَل هُوَ إِلّا باسِطٌ كَفَّهُ
يَستَطعِمُ الوارِدَ وَالصادِرا
-حاشاك! وحاشا أمثالك! وإن استطعم بعضهم الآن تفاعلًا لا مالًا..
ختامًا، أنت بارع في الحصر والتقسيم، وفي قصر المعنى واستقصائه، قدّم لنا خلاصة فلسفتك للحياة:
– كيف تصنّف الناس؟
وَما الناسُ إِلّا كَالدِيارِ وَأَهلُها
بِها يَومَ حَلّوها وَغَدواً بَلاقِعُ
-كيف يكون الإنسان ناجحًا مُنجزًا؟
وَما المَرءُ إِلّا كَالشِهابِ وَضَوئِهِ
يَحورُ رَماداً بَعدَ إِذ هُوَ ساطِعُ
– التدين والدنيا.. كيف تراهما؟
وَما البِرُّ إِلّا مُضمَراتٌ مِنَ التُقى
وَما المالُ إِلّا مُعمَراتٌ وَدائِعُ
وَما المالُ وَالأَهلونَ إِلّا وَديعَةٌ
وَلا بُدَّ يَوماً أَن تُرَدَّ الوَدائِعُ
-فمن السعيد؟
وَما الناسُ إِلّا عامِلانِ: فَعامِلٌ
يُتَبِّرُ ما يَبني وَآخَرَ رافِعُ
فَمِنهُم سَعيدٌ آخِذٌ لِنَصيبِهِ
وَمِنهُم شَقِيٌّ بِالمَعيشَةِ قانِعُ
..
هذه هي! المُضْمَرات في خبايا غير مرئية، والمُعْمَرات في ودائع غير مصرفية، أن العمل على العميق المغمور، وعلى الرفيع المعمور إلى السماء، هذه التي علينا أن نعتني بها في عزلتنا الصحّية..
رضي الله عن لبيد بن ربيعة العامري.. الذي قال أعذب الشعر وأصدقه..
من مجلة اليمامة – نايفة عسيري